Sunday, January 6, 2019

عذرا سيدي الرئيس ما هكذا تورد الإبل

عذرا سيدي الرئيس ما هكذا تورد الإبل، السودان تخفيض التمثيل الدبلوماسي القرار الخطأ في الزمن الخطأ.
 فاجأ الرئيس السوداني عمر البشير الأوساط السياسية والدبلوماسية الإقليمية والدولية في الثاني من مايو/ أيار 2018 م بقرار تخفيض التمثيل الدبلوماسي والإداري والمحاسبي وقد شمل القرار تحفيض 13 من البعثات الدبلوماسية حول العالم، وأربعة ممثليات قنصلية، علاوة على تجفيف الهيكل الإداري والمحاسبي، وذلك حسبما نشر نقلا وكالة السودان للأنباء.
بدءاً وقبل شيء، نؤكد على عوار وخطل هذا القرار من حيث الجهة المستهدفة وهي وزارة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي السوداني، وكذلك عواره وخطله من حيث الحجة وهي ترشيد الصرف المالي، وكذلك عواره وخطله من حيث التوقيت والزمان. وقد جعلنا هذا القرار نستلهم قيمة المثل العربي القديم القائل (ما هكذا يا سعد تورد الابل) وهو يضرب في العادة لمن يريد الإصلاح ويخطئ النتيجة، وتقول حكاية المثل " يُحكى ان لسعد بن مناة أخاً يقال له مالك، وكان مالك هذا آبل أهل زمانه ( كثير الابل)، فقد اشتهر بأنه أحسن من رعى إبلاً وأكثر من رفق بها، فانشغل مالك هذا مرة بزواجه، فأوكل الى أخيه سعد أمر رعاية ابله، فلم يعرف سعد كيف يردها الى الماء، ولم يحسن رعايتها ولا الرفق بها، فقال فيه اخوه مالك بيتا من الشعر أصبح عجزه مثلاً يضرب حتى يومنا هذا: "أوردها سعد وسعد مشتمل      ما هكذا يا سعد تورد الإبل". ومن هذا وددنا ان نقول لسيادة الرئيس ما هكذا تعالج الازمة السودانية، فقد اتخذت القرار الخطأ وفي التوقيت الخطأ، هنا نتناول بشيء من التفصيل كيف رأينا ذلك في ثلاث جوانب وهي استهداف وزارة الخارجية، وحجة الترشيد، وتوقيت اتخاذ القرار.
 اما خطل القرار من حيث الجهة المستهدفة وهي وزارة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي السوداني، فإن القرار يعيد السودان الى مربع القوقعة والانعزالية، ويكشف عجز البلاد عن التفاعل مع المحيط الخارجي وبناء علاقات ذات أهمية كبرى لتعزيز صورة البلاد في المخيلة الأممية، فالدبلوماسية هي فعل الانتشار والعمود الفقري للسياسية الخارجية المعنية بتنظيم نشاط الدولة في علاقاتها مع غيرها من الدول ومع المنظمات الدولية، وهي السلوك السياسي الخارجي سواء على مستوى العلاقات مع الدول أو مع الأشخاص الآخرين من غير الدول، من أشخاص القانون الدولي، وهي كذلك العمل على إيجاد التوازن بين الالتزام الخارجي لدولة ما والقوة اللازمة لتنفيذ هذا الالتزام. وهي مجموعة الأفعال وردود الأفعال التي تقوم بها الدولة في البيئة الخارجية بمستوياتها المختلفة، سعياً لتحقيق أهدافها والتكيف مع متغيرات هذه البيئة. وهذه التعريفات ولاسيما الأخير تشتمل على أنماط السلوك الخارجي المختلفة التي يمكن أن تمارسها الدولة، وعليه لابد من تمثيل دبلوماسي حقيقي وفعال يتعامل مع جميع الجوانب الحيوية للسياسة الخارجية والياتها، فمن هذه الناحية يكشف القرار عجز الدولة غير المبرر الذي يستوجب اقالة الوزارة او استقالة الرئيس نفسه، فإن النظام الذي يعجز عن توفير لقمة الدبلوماسية في بلد مثل السودان ليس جدير بالبقاء، وقد اتخذ المشير نميري ذات القرار، أيام حشرجاته الأخيرة، ولعل القرار يصلح لان يكون مؤشرا جيد لهلاك النظام او تهالكه. ولعل القرار كذلك يعتبر في مجملة تفريطا في صيانة الامن القومي للبلاد، وفشلا في الحفاظ على الدولة وبقائها واستمرارها، كما يعتبر عجزا في مخاطبة حاجات التنمية الاقتصادية المتجددة، حيث أصبحت الدبلوماسية عماد الاقتصادات النامية، حيث يُصْنع في هذا الحقل أولى معينات الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمعونات الحكومية الرسمية، كما يمثل القرار الأخير تفريطاً غير مبرر في هيبة الدولة وقوتها الخارجية، هو اكبر محاولة تبهيت لصورة البلاد ومكانتها في المجتمع الدولي، وتفريط كامل الدسم في بناء الصورة الإيجابية للبلاد في الخارج، كما يمثل القرار تكسيحا لمبدأ نشر الثقافة السودانية، هو هدف تسعى لتعزيزه جميع دول العالم، ويعتبر القرار وبلا منازع مشروعا لتقزيم الدبلوماسية السودانية الرائدة في صورها المختلفة من ثنائية ودبلوماسية مؤتمرات ودبلوماسية منظمات دولية وغيرها، هو أي القرار تجنيح للوسيلة الاقتصادية التي تمهد الطريق لمنح المساعدات أو انهاء العقوبات، هو كذلك قتلا عمداً، ومع سبق الإصرار والترصد للوسيلة المعنوية الرائدة والرائجة عالميا ممثلة في الدبلوماسية الإعلامية. كما يمثل القرار هدما لركن ركين من اركان الوسيلة الاستخبارية المتعارف عليها عالميا، واجتساس لا هوادة فيه لدور الاستخباراتية المهذبة وعجز عن توظيفها في جمع المعلومات الاستراتيجية.
اما خطل القرار وعواره من حيث ترشيد الصرف المالي احتراما للحالة الاقتصادية المزرية التي وصلها السودان في عهد الإنقاذ، فإنه خطل وعوار مضحك ومبكي في نفس الوقت، لأنه لم يتفق العالم منذ نشأة السياسة الخارجية على شيء مثلما اتفق على أولوية الصرف على الدبلوماسية والياتها، وان جميع الدول تتبارى في توسيع نفوذها وتواجدها الدبلوماسي في جميع بقاع العالم ودوله، بما فيها من الجزر الصغيرة في اقاضى الدينا، والممالك المغمورة في بقاع الأرض، والدويلات المركونة في اقاصي العالم، مهما كانت كبيرة او صغيرة، لم تتجرأ أي دولة او منظمة او جماعة على اعتبار الصرف على الدبلوماسية فساد او ترفاً، او انه يجئ على حساب الصالح العالم.
سيدي الرئيس إذا كنت تريد الترشيد فعليك بمحاربة الفساد والمفسدين الذين اثروا على حساب هذا الشعب، وعليك سيدي الرئيس بوقف النزيف الاقتصادي الأساسي الذي اقعد البلاد وجعلها عالة تتسول الدول الأخرى، وعليك تحريك عجلة الاقتصاد الذي أصابه الكساح، وعليك سيدي الرئيس بمحاكمة المسؤولين عن ضياع خط هثيرو والذين جففوا الخطوط الخوية السودانية، الناقل الوطني، وعليك اتحاذ القرارات والتحقيق ومحاكمة مهربي الدهب عبر مطار الخرطوم، وعليك سيدي الرئيس باتخاذ القرار والإجراءات اللازمة لوقف تهريب الصمغ العربي السوداني ليصدر من دول الجوار، وعليك سيدي الرئيس اصدار القرارات الضرورية بترشيد الصرف السياسي الحزبي وترشيد الصرف السيادي، وترشيد الصرف على الأجهزة الأمنية، ترشيد الصرف على الجيوش الوزارية، وعليك محاسب المجرمين الذين باعوا بيوت السودان في الخارج ومغار سفارته، وعليك بمحاسبة الذين افسدوا الموانئ البحرية وباعوا بواخرها في أسواق الخردة العالمية بغية حفنة دولار لا طائل من ورائها، وعليك بمحاسبة الذين باعوا فلنكات السكة حديد لورش النجارة والذين باعوا حديدها الى ورش السمكرجية والبنايين، وعليك بمحاسبة الذين باعوا الجواز السوداني، والذين باعوا الأراضي....  وعليك....  وعليك....... اما الخارجية وتخفيض بعثاتها ودبلوماسييها واداريها فهو القرار الخطأ في الوقت الخطأ والتاريخ لا يرحم.
وان كانت الدبلوماسية السودانية بالفعل تحتاج الى إعادة هيكلة، فإنها تحتاج لخطة استراتيجية تقوم على إعادة الانتشار وتعزيزه الموارد البشرية العاملة من حيث التدريب ورفع القدرات، ومضاعفة عدد السفارات والبعثات الدبلوماسية والقنصلية وزيادة البعثات الإعلامية وليس تخفيضها وتقليصها، وان الحاجة الى هيكلة العمل الخارجي تكون من خلال بناء الكادر الدبلوماسي وتعزيز قدراته، وإصلاح السياسات الداخلية العوجاء التي جعلت السودان منبوذا كالجمل الاجرب، وللأسف عامة الناس يقولون بفشل الدبلوماسية السودانية وهذا القول مردود جملة وتفصيلا لان الدبلوماسية السودانية تعمل في أسوأ الظروف، حيث تنتهج الدولة داخليا وخارجيا سياسات عبثية جعلتها في مواجهة مع جميع دول العالم، مما كسح (من الكساح) العمل الدبلوماسي وجعل منه عبء على الدولة. وكما قال الرائد نيكروما " عالجوا مملكة السياسة وسوف يتبع الباقي" ان فساد السياسة الداخلية وعوار منهج إدارة الدولة السودانية والفساد الذي ضرب بأطنابه هي الأسباب الرئيسية وراء ما وصلنا اليه.
سيدي الرئيس يكفي السودان ثماني وعشرون عاما من المعالجات الخاطئة، فإذا عز عليك مفارقة السلطة وبريقها عليك باتخاذ القرارات السليمة المدروسة، عالج الازمات بدوائها لا بزيادة الداء، وإذا كنت سيدي الرئيس تسعى لدوره رئاسية قادمة فالولوج إليها عبر اضعاف حجم السودان الخارجي ليست البوبة الصحيحة.
 سيدي الرئيس، ان قرار تخفيض الدبلوماسية السودانية قتل الشعب السوداني مرتين، مرة عندما سددت الهدف في مرمى بلادك ومرة أخرى عندما أغلقت اهم نوافذ الحل، فالدبلوماسية جزء من الحل وليست جزء من المشكلة، ابحث عن المشكلة! اين ذهبت موارد السودان البترولية والذهبية، ومن ثم الا تعلم سيدي الرئيس ان الدبلوماسية خلال الثماني وعشرون عام الماضية كانت تعمل على اصلاح ما أفسده الدهر؟؟؟.
اما حيث خطأ التوقيت، ألا تعلم سيدي الرئيس اننا نعيش في عصر السماوات المفتوحة، ألا تعلم سيدي الرئيس ان العالم صار قرية صغيرة، ألا تعلم سيدي الرئيس بأننا جزء من هذا العالم، لماذا تسعى لقوقعة البلاد وشرنقها، وقطع اوصالها، وتقزيم دورها بين دول العالم، لماذا تجعل منا دولة عاجزة حتى عن دفع رواتب دبلوماسيها، ألا تعلم ان الدول من حولنا ومنها اثيوبيا تفتح سفارات جديدة وقنصليات جديدة في كل عام، ألا تعلم سيدي الرئيس نحن في زمان الانتشار وليس الانكماش، ألا تعلم سيدي ان هذا القرار خطأ فعلاً.
أخيراً ان هكذا قرار لا يحل المشكلة بل ربما يفاقها، وانه يعطي إشارة سالبة بأن السودان دولة ومفلسة وغير جديرة بأن تكون جزءاً من العالم المعاصر، ويفاقم التردد الدولي المستمر في التعاون معنا، ويجلب العار الهوان لبلادنا رائدة الدبلوماسية الافريقية والعربية، ولو سئل المحجوب في قبره عن عددا السفارات السودانية اليوم لقال " بعدد دول العالم المستقلة". سبحان الله القائل " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"(104) صدق الله العظيم.