صالح السليمي
يعيش السودان واحدة من أحلك فصول تاريخه الحديث، حيث تنغمس البلاد في حرب لا يبدو لها نهاية قريبة. هذه الحرب ليست كسائر النزاعات التقليدية، بل تجاوزت في وحشيتها كل النظم والأعراف الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. فالأطراف المتحاربة، في خضم سعيها لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية، أغفلت بشكل كامل التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط دائرة العنف الدموية.
كما ان الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها جماعات مسلحة في مختلف أنحاء البلاد تؤكد أن الحرب في السودان لم تعد مجرد نزاع على السلطة أو السيطرة على الأراضي، بل تحولت إلى معركة تتحدى كل القيم الإنسانية. ففي منطقة الحلفاية على سبيل المثال، ارتكبت جماعات متطرفة جريمة وحشية بتصفية عدد من المدنيين بدم بارد بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، بينما الراجح ان الضحايا هم من بين الذين تقطعت بهم السبل ولم يجدوا فرصة لمغادرة منطقتهم، تمثل هذه التصفيات انتهاك صارخ لكل ما تضمنته القوانين الدولية من حماية للأبرياء. هذه الواقعة ليست حادثة معزولة، بل هي جزء من نمط متكرر من العنف الممنهج الذي يهدف إلى بث الرعب والفوضى، وهو ما يهدد بإدخال السودان في دوامة من الصراعات المستدامة التي قد لا تنتهي قريباً.
وفي ظل هذه الأوضاع المتدهورة، دفع تعنت القوات المسلحة ورفضها للحوار قوات الدعم السريع لإعلان وقف التفاوض ليزيد الوضع تعقيدًا وخطورة. حيث اتجه الدعم السريع نحو التصعيد العسكري الشامل، معلناً أن الخيار العسكري هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافه. هذا التوجه نحو العمل العسكري سيفاقم الأزمة ويضع المدنيين في مرمى النيران، ويجعل من حياتهم مهددة بالزوال في أي لحظة. فبدلاً من البحث عن حلول سلمية تضمن للشعب السوداني حقه في الحياة الكريمة والأمان، تنخرط الأطراف المتحاربة في مواجهات شرسة لا تعير أي اعتبار لمصير الملايين من الأبرياء.
كما إن تصعيد لم يتوقف عند العمليات العسكرية فقط، بل امتد إلى إثارة النعرات العنصرية التي تمزق النسيج الاجتماعي للسودان. لقد عبر عن ذلك التسجيل الصوتي القبيح الذي نشره المدعو عبدالرحمن عمسيب الذي أساء فيه لمواقف الحركات المسلحة بلغة عنصرية بغيضة، مما جعل الخطاب العنصري والتحريضي سلاحًا يستخدمه بعض الأطراف لتأليب مكونات المجتمع ضد بعضها البعض، مما يعزز التوترات الاجتماعية ويزيد من احتمالية انفجار نزاعات أهلية على أسس عرقية وقبلية. وهذا الأمر يشكل خطورة بالغة، حيث يرشح السودان لأن يتحول إلى ساحة صراع متفجر لا تقتصر خسائره على الجانب المادي فقط، بل قد تؤدي إلى انهيار الهوية الوطنية وتفكك الدولة.
كذلك التطاول في أمد الحرب لا يخدم سوى تعميق جراح السودان، إذ أن المدنيين، الذين هم الضحية الأولى لهذا الصراع، يرزحون تحت وطأة معاناة لا تُحتمل. حيث النزوح الجماعي، والقتل العشوائي، وتدمير البنية التحتية، كل ذلك جعل من حياة السودانيين جحيماً لا يطاق. والمدنيون يعانون بشكل يومي في تأمين الضروريات الأساسية للحياة، من ماء وغذاء ودواء، فيما تنعدم الخدمات الطبية وتتعطل وسائل النقل. كذلك القهر النفسي الذي يتعرض له السكان في مناطق النزاع لا يقل شدة عن الأذى الجسدي، حيث يعيشون في خوف دائم من القصف والمواجهات المسلحة، وهم يراقبون بعيون يملؤها الأسى تدمير بلادهم وتهجير أبنائهم.
كل هذه المؤشرات تدل على أن الحرب في السودان، إن استمرت على هذا النحو، قد تقود إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. فالحلول العسكرية أثبتت فشلها في إنهاء النزاعات وتحقيق الاستقرار، والرهان على القوة وحدها لن يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار والتفكك. إن المطلوب اليوم هو تحرك دولي وإقليمي عاجل لإنهاء هذا النزاع الدموي، عبر الضغط على الأطراف المتحاربة للعودة إلى طاولة المفاوضات والالتزام بالقانون الدولي الإنساني.
كما ان الدور الدولي في هذه المرحلة حاسم، حيث يمكن للمجتمع الدولي أن يفرض عقوبات وضغوطات على الأطراف التي تواصل انتهاك حقوق الإنسان، ويمكنه كذلك دعم مساعي الوساطة والحوار السلمي.
وفي هذا السياق، يجب أن لا تُترك قضايا العدالة والمحاسبة جانباً، بل يجب تقديم كل من ارتكب جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان للمحاكمة، حتى يكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه استغلال الحرب لتحقيق مكاسب شخصية على حساب حياة الأبرياء.
كل التوقعات تشير إلى إن مستقبل السودان على المحك، وكل يوم يمر دون تحرك جدي لإنهاء هذا النزاع يزيد من تعقيد الأوضاع ويقرب البلاد من حافة الهاوية. وإن الخيار الوحيد الذي يمكن أن ينقذ السودان من هذا المصير المظلم هو الحل السلمي الذي يأخذ في الاعتبار حقوق كل مكونات المجتمع السوداني، ويضمن العدالة والمساواة للجميع.