من وحي تجارب رواندا وجنوب افريقيا والبوسنة والهرسك– السودان ضرورة بناء وجدان وطني مشترك

صالح السليمي

الوجدان المشترك بين الإثنيات المتباينة في الوطن الواحد هو حالة من الوعي الجماعي والشعور بالإنتماء المشترك، على الرغم من التنوع العرقي أو الثقافي. هذا المفهوم يعزز التماسك الإجتماعي ويسهم في بناء هوية وطنية مشتركة يمكن أن تتجاوز الإنقسامات العرقية والدينية، وهو ضروري لتحقيق السلام والتنمية المستدامة في الدول التي تمزقها الحروب مثل السودان.
في الحقيقة الازمة السودانية الناشبة منذ الإستقلال يقف ورائها ضعف الإحساس بالانتماء المشترك للوطن الواحد، حيث يشعر طيف عريض من الناس بالظلم والتهميش الإقتصادي والتنموي، سواء كان ذلك التهميش حقيقي او متوهم، و في كثير من الاحيان تفعل الأوهام ما تفعله الحقائق من خلال خلق قوة دافعة إيجابية او سلبية تجاه الحالة املعينة، لذلك فإن االزمةالسودانية الراهنة ال يجدي معها الحديث الفضفاض من شاكلة، نحن امة يربط بيننا الدين ال يمكن ان تفرق بيننا الأعراق، او نحن بلد صلب وله جذور ضاربة في التاريخ، ولذلك من الضرورة بمكان التصدي بواقعية لمثل هذا النوع من المشكلات انطلاقا من الإعتراف بها ومواجهتها، فأزمة اليوم اكثر تعقيدا بكثير مما كان عليه الحال قبل انقالب الجبهة الاسلامية في ،1989 لقد أوصلتنا ممارسات الانقاذ من خلال سياسة فرق تسد الى الحرب التي نحن عليها اليوم، ومازال دهاقنة الإنقاذ ينفخون في كير الحرب مثلما فعل الدكتور(امين حسن عمر) محرضا وفد الجيش بعدم الذهاب الى جنيف، حين أفتى بعدم جواز مصالحة الدعم السريع مستخدما قوله تعالي ” وان جنحوا السلم فاجنح لها” حيث قال -محرفا الكلام عن مواضعه- ان الالية تشير الى “ان يضع هؤالء أسلحتهم ويسلموا لسلطان الدولة المسلمة )!(ويأتوا طائعين لمحاكمتهم، وان يردوا ما نهبوا”،ولعمري ان مثل هذا التجديف لا يغني عن الحق شيئا.
ان السودان ليس البلد الوحيد الذي اندلعت فيه حرب معقدة قضت على الأخضر واليابس فدونك بلدان مثل “رواندا” التي اندلعت فيها حرب أهلية نيرواند كارثية كادتان  وشعبها، وجنوب افريقيا التي عانت نظام فصل عنصري فرق بين الناس على أساس اللون، والبوسنة والهرسك التي انزلقت في اتون حرب ظن  العالم انها لن تضعاوزارها. ولكن بفضل الجنوح الى السلم وتغليب المصالح المشتركة استطاعت هذه البلدان الخروج من بين ألسنة النيران وركام الرماد الىمستقبل مشرق و أفق خالق، وما ذلك على السودان بعزيز.
فقد شهدت دولة رواندا بعد حرب الإبادة الجماعية في عام 1994 عملية مصالحة شاملة تحت قيادة الرئيس (بول كاغامي)و تم تطبيق مجموعة من السياسات والإصلاحات التي ساهمت في بناء وجدان مشترك بين الإثنيات الرواندية) الهوتو والتوتسي(ومنها العدالة الإنتقالية من خلال المحاكم الشعبية المعروفة(غاشاشا)، حيث تم تحقيق العدالة لكثير من الضحايا، وهو ما ساهم في تخفيف الأحقاد وبناء جسور جديدة بين المجموعات. ركزت رواندا المستقبل على التعليم والمواطنة في بناء هوية وطنية رواندية تتجاوز الإثنيات من خلال التعليم وبرامج التوعية. ذلك بالإضافة الى تعزيز التمكين الإقتصادي الرامي لتمكين جميع المواطنين من المشاركة في الإقتصاد من خلال سياسات تنموية ساهمت في تحسين مستوى المعيشة.
في جنوب افريقيا كانت سياسة الحقيقة والمصالحة إحدى الركائز الأساسية في بناء وجدان وطني مشترك بين البيض والسود بعد انتهاء نظام الفصل العنصري. هذه السياسة تمحورت حول مفهوم العدالة الإنتقالية، التي تهدف إلى معالجة إرث الإنتهاكات والجرائم التي ارتكبها النظام العنصري، دون اللجوء إلى الانتقام أو العقاب الجسدي الواسع، بل من خالل الإعتراف بالحقائق وتحقيق المصالحة الوطنية. وقد نجحت هذه السياسة في بناء وجدان وطني مشترك، وذلك من خلال التركيز على عدة نقاط ابرزها نشاط لجنة الحقيقة والمصالحة، حيث تمكنت  اللجنة برئاسة القس ديزموند توتو، وكانت مهمتها التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت خلال فترة الفصل العنصري من كلا الجانبين (الحكومة العنصرية وحركات المقاومة) وقد استمعت اللجنة لشهادات الضحايا والجناة في جلسات علنية، مما أتاح للمجتمع فرصة سماع الحقيقة بشكل مباشر. هذه العملية سمحت للمجتمع بفهم حجم الظلم الذي وقع، وهو ما ساهم في بناء تعاطف متبادل بين المجموعات العرقية.كذلك تبنى النظام الجديد سياسة الإعتراف بالجرائم بدلا من الإنتقام ، حيث ركزت السياسة على الإعتراف بالجرائم كوسيلة لتحقيق العدالة. فالجناة الذين اعترفوا بأفعالهم أمام اللجنة وحصلوا على العفو من العملية الشاملة للمصالحة. هذا النهج جنب كانذل كجزءا البلاد دوامة الانتقام التي قد تزيد من التوترات العرق من ذلك فتح الباب أمام المصالحة الحقيقية، وبدلاً علاوة على هذا تبنت جنوب افريقيا ما عرف بسياسة تقدير الألام المشتركة، حيث ان عملية المصالحة لم تكن تقتصر على السود الذين عانوا من التمييز البيض الذين واجهوا تحديات في التعامل مع إرث العنصري فقط، بل أيضاً لم ساهم في خلق نوع من الفهم المتبادل والإعتراف بأن الجميع كانوا ضحايا لهذا النظام، وإن بدرجات متفاوتة. الى ذلك، فقد لعبت القيادة الملهمة ممثلة في (نيلسون مانديال) دورا في نجاح هذه السياسة.حاسما و كزعيم يحظى باحترام كبير من جميع األطراف، فقد بالمصالحةوبناء أمة عميقا أظهر مانديال التزاما موحدة. كما قاد مانديال العملية من السعي للانتقام، دعا إلى التسامح والتعايش المشتركً بالقدوة، فبدلاً ، و من الانقسام العرقي.
تشكيل هوية وطنية جديدة مبنية على قيم التعددية والمساواة بدلاً وتم خلال هذه العملية كذلك تعديل المناهج الدراسية حتى تساهم في تعزيز الهوية الجديدة، وتم تكريس قيمة المواطنة على أساس المساواة بين الجميع بغض النظر عن خلفيتهم العرقية.
إلى جانب العدالة الإنتقالية، تمت إصلاحات هيكلية في مجالات متعددة مثل الإقتصاد والسياسة لتقليص الفجو ة الكبيرة التي كانت قائمة بين البيض والسود. و هذه الإصلاحات ساهمت في تعزيز الشعور بالمشاركة المتساوية في بناء الوطن. ولم تكن لجنة الحقيقة والمصالحة نهاية الطريق، بل كانت بداية لحوار مستمر حول قضايا العدالة الإجتماعية والمساواة، مما سمح للمجتمع بالتطور ومواجهة التحديات المستمرة بشكل سلمي. و إلى دولة بفضل هذه السياسة،نجحت جنوب إفريقيا في الانتقال من مرحلة حكم عنصري الي ديمقراطية متعددة الأعراق دون أن تغرق في حرب أهلية أو عنف واسع النطاق. وعلى الرغم من أن التحديات
البناء وجدان وطني مشترك بين البيض والسود، قائم اقوي ما زالت قائمة، إال أن هذه العمليةوضعت أساسً على قيم التسامح والعدالة والإعتراف المتبادل.
وأخيرا؛ في البوسنة والهرسك على الرغم من التحديات الكبيرة، نجحت بعض المبادرات في تعزيز التعايش بين المجموعات العرقية المختلفة بعد انتهاء الحرب الأهلية، حيث حافظت السياسات الجديدة على تشكيل وعي عام بضرورة التعايش بدل الإحتراب،والمصالح العليا تكمن في الهجرة نحو المستقبل بالاستفادة من عواقب الماضي وتجاربها القاسية.
على العموم، ويحتاج إلى التزام طويل الأمد من جميع الفاعلين في بناء الوجدان المشترك ليس سهلاً المجتمع، لكنه يعد من أهم العوامل لتحقيق الإستقرار والسلام في البلدان التي عانت من الحروب مثل السودان.