السودان: لابد من بداية جديدة قائمة على النظم والمعايير (1)
مدونة السلوك مفهومها وطبيعتها
صالح السليمي
مدخل (1) بالصدفة كنتُ في مكتب رئيس أحد المكاتب الحكومية التي يتوافد اليها الجمهور لتوثيق الشهادات، دخلنا علينا الموظف الأدنى وقال يا سيد فلان المواطن دا جاب شهادة ميلاد قديمة للتوثيق، وأردف الموظف بالقول هي (الشهادة) ممكن تتوثق نوثقها سيادتك، رد مدير المكتب في حضرتي بالقول "مرمطوا شوية ووثقها ليهو". انتهى المدخل 1.
مدخل (2) سألتُ ابني عن كيف علم ان الحرب قد اندلعت في السودان، فقال جاءنا الأستاذ اثناء الامتحان وقال: اطلعوا اطلعوا (البلد ولعت)، فقلت له هل فهمت انه الحرب اندلعت فقال لا، ولكن بعد ما خرجنا من الفصل فهمت من خلال الحوار مع اخرين انه يقصد ان الحرب اندلعت (انتهى المدخل 2)
استلهمت من الحكاية الأولى التي ظلت عالقة بذاكراتي زهاء عشرون عام، استلهمت منها ضرورية أن يلتزم الموظف العام بالقانون والقيم والاخلاق، من منطلق انه يشغل هذا الموقع لخدمة الجمهور من اجل التسهيل عليهم وليس " مرمطتهم". ولما كان الشيء بالشيء يذكر، عندما كنتُ في فيتنام عرفتُ ان هناك مدونة سلوك تُعنى بشكل خاص برضاء الجمهور، فإذا اشتكى العميل من أي موظف في أي مؤسسة من ضعف الخدمة المقدمة او عدم تلبيتها لطموحه، او شكا من الطريقة التي عُوِمل بها، هذه المدونة تعرض الموظف لعقوبة رادعة ربما يفقد بسببها وظيفته. كذلك في الصين تضع المؤسسات كاميرات في مكاتب الخدمات العامة للاطلاع مباشرة على سلوك الموظفين تجاه العملاء او الجمهور.
كذلك استلهمت من المدخل الثاني ضرورة أن تكون هناك معايير وقيم لأداء الواجبات بطريقة مثلى ذلك من خلال القوانين والتدريب حول ما ينبغي ان يكون عليه الحال في كل الظروف، في وقتي الحرب والسلام، فالمعلم الذي يخبر طلابه عن الحرب بالقول "البلد ولعت" بالضرورة معلم ينقصه الكثير من القيم المهنية.
نحن فقط تأخرنا، ولكن العلم والمعرفة قد قطعا شوطا طويلاً في كيفية بناء المجتمعات القادرة على تحمل المسؤولية، وذلك من خلال التواطؤ على جملة المعايير والنظم التي أصبحت حاسمة في تنفيذ أي نشاط سواء كان في مجال التعليم، أو الصحة او ضروب العمران بشكل عام. أحد هذه المفاهيم والمعايير الضرورية مفهوم مدونة السلوك (Code of Conduct)، ويشير هذا المفهوم إلى مجموعة من القواعد والإرشادات الأخلاقية والسلوكية التي تحدد المعايير المتوقعة من الأفراد داخل مؤسسة أو منظمة معينة. وتهدف مدونة السلوك إلى توجيه سلوك الموظفين وأصحاب المصلحة وتعزيز الالتزام بالقيم والمبادئ التي تقوم عليها المؤسسة. وتحتوي المدونة عادةً على العديد من العناصر أهمها القيم الأساسية التي تُحدد المبادئ التي تؤمن بها المؤسسة مثل النزاهة، الشفافية، الاحترام، المسؤولية، والتعاون.
كذلك من اهم عناصر مدونة السلوك، المسؤوليات الفردية التي تحدد توقعات السلوك المهني للأفراد داخل المنظمة بما يشمل الالتزام بالقوانين، والحفاظ على السرية، والاحترام المتبادل، وتجنب تضارب المصالح. كما تتضمن المدونة المعايير الأخلاقية التي توجه الأفراد حول كيفية التعامل مع المواقف الأخلاقية المختلفة مثل التعامل مع الرشوة، الفساد، أو الاحتيال. وتُشدد على اتخاذ القرارات التي تعكس أخلاقية عالية وتمثّل قيم المؤسسة. علاوة على ذلك تحتوي مدونات السلوك على الإجراءات التأديبية التي قد تُتخذ في حال مخالفة القواعد، ويتم تحديد العقوبات التي يمكن أن تُفرض على الأفراد في حالة انتهاك مدونة السلوك.
كما تحتوي المدونات في العادة على معيار العلاقات الداخلية والخارجية، ويشير إلى كيفية تعامل الأفراد مع بعضهم البعض داخل المؤسسة (زملاء العمل، المُديرون) ومع أصحاب المصلحة الخارجيين (العملاء، الموردين، الجمهور). هذا بالإضافة الى معيار الشفافية والامتثال للقوانين التي تفرض على الأفراد الالتزام بالقوانين والتشريعات المعمول بها، بالإضافة إلى تشجيع الشفافية في التعاملات المالية والإدارية.
تكمن أهمية مدونة السلوك (Code of Conduct) في تعزيز ثقافة الانضباط وتساعد على تشكيل ثقافة مؤسسية قائمة على الانضباط والاحترام المتبادل، وحماية سمعة المنظمة من خلال ضمان أن يتصرف الأفراد بطريقة تعزز ثقة الجَمهور والمجتمع في المؤسسة، وتوجيه القرارات، حيث توفر إرشادات واضحة حول كيفية التصرف في المواقف المختلفة، مما يقلل من فرص سوء الفهم أو التصرف غير الملائم. باختصار، تمثل مدونة السلوك إطار أخلاقي وقانوني يوجه سلوك الأفراد في العمل، ويعزز الالتزام بالقيم والمبادئ التي تقوم عليها المنظمة.
أخيرا؛ الحرب ليست خاتمة المطاف، ولكن هل توافقنا – في المستقبل- على بناء دولة ذات قيم شاملة، وموضوعية وعلمية قادرة على المنافسة، ام ستعود حليمة الى قديمها مثل نهج " المرمطة" مع الجمهور وطالبي الخدمات الذين لديهم من المشاغل والمشاكل ما يكفيهم، ام سنعود الى مرة أخرى منهج " البلد ولعت" ذلك المنهج الذي حرم الذين لم يفهموه من اخذ الحيطة والحذر، وورط الذين فهموه في حالة قاتلة من الذعر، بينما كان المنهج السليم ان تتصل المدرسة بذوي الطلاب واخطار الطلاب بالأوضاع بطريقة مثالية تحتوي على قائمة من الارشادات والضوابط الأمنية والاحترازية.
No comments:
Post a Comment