الصراع في السودان لن يُحسم عسكريًا؛ تجربة جنوب السودان خير دليل وشاهد
صالح السليمي
إن الصراع في السودان لن يُحسم عبر الحلول العسكرية، بل إن الحلول العسكرية ستؤدي إلى دمار أكبر وتوسيع هوة الفتنة. ان تجربة الحرب في جنوب السودان، التي امتدت لنحو خمس وثلاثين عامًا، وما نتج عنها من دمار واسع ومأساة إنسانية، تبرهن على أن الحرب لا تؤدي إلا إلى خراب الأوطان، وتدمير الشعوب. فقد قُتل أكثر من مليون شخص، وشُرد نحو ثلاث ملايين، وارتُكبت مجازر بشعة. وعليه، فإن تجربة جنوب السودان تُعد شاهدًا حيًا على أن الحسم العسكري ليس إلا وقودًا للصراع وتدمير المستقبل.
الحرب في جنوب السودان لم تكن مجرد صراع على الأرض أو السلطة، بل كانت صراعًا على الهوية والتعايش المشترك. وبعد عقود من القتال، تحولت لأزمة سياسية ضخمة حصدت مستقبل الشعبين في الجنوب والشمال، مما ترك المجتمع في حالة من الدمار الكامل. وكان الجنوبيون، بعد هذا الصراع المدمر، أمام خيار وحيد هو الانفصال، ما أدى إلى تقسيم البلاد ودخول الشمال في أزمة اقتصادية خانقة. والدرس الذي يجب على الجميع تعلمه من هذه الحرب هو أن الصراعات المسلحة لا تؤدي إلا إلى زيادة المعاناة وإطالة أمد الفوضى والخراب، بل تُعجل بتدمير النسيج الاجتماعي والسياسي وتفكيك الدول.
كما ان ازمة دارفور التي تفجرت بسبب سياسة "فرق تسد" التي اتبعها النظام السابق، هي نموذج آخر لكيفية إدارة الصراعات في السودان بطريقة كارثية. فبدلاً من بناء جسور التفاهم، سعى نظام المؤتمر الوطني لتأجيج الصراعات الإثنية، مما أدى إلى قتل مئات الآلاف وتشريد ملايين آخرين. وهذا النهج لم يُسهم في تحقيق أي حل دائم، بل زاد من تعقيد الأوضاع في دارفور، علاوة على الصراعات التي كانت ناشبة اصلاً في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق. إن هذه السياسة، التي تعتمد على الحروب والقتل والتدمير، لا يمكن أن تُمثل أي حل للبلاد. بل على العكس، إنها تفتح المجال أمام المزيد من التردي السياسي والمجتمعي، وتُعزز من الانقسام الوطني. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى تجارب دولية مشابهة، مثل تجربة رواندا وسيراليون، حيث شهدت تلك الدول حروبًا أهلية دامية، إلا أن الحلول السلمية والتوافقية كانت هي الطريقة الوحيدة للانتقال من دائرة العنف إلى مرحلة السلام. في رواندا، على سبيل المثال، نجحت المصالحة الوطنية في بناء مجتمع قوي ومستقر، رغم الفظائع التي شهدتها البلاد.
ولذلك الحل الحقيقي والأمثل للصراع السوداني هو الحل السلمي، الذي يستند إلى الحوار والمصالحة الشاملة. على أن يشمل هذا الحوار جميع الأطراف السودانية، بما في ذلك الأطراف السياسية والإثنية والقبلية، ويعتمد على تفعيل الدور الإقليمي والدولي لضمان تحقيقه. وقد اسفرت تجربة حرب السبعة عشر شهر الماضية انه ليس في مقدور أي طرف أن يفرض الحل العسكري، لذلك فالعقل يقول طالما لا يمكن لأي دولة أن تظل في حالة حرب لأجل غير مسمى فان تسريع الحل التفاوضي يظل امرا حيويا وحتميا. فالدول التي خرجت من صراعات شبيهة، مثل جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، أو كولومبيا بعد عقود من حرب العصابات، تؤكد أن الحلول السلمية التي تعتمد على مصالحة حقيقية ومشاركة جميع الأطراف هي السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار. في جنوب إفريقيا، قاد نيلسون مانديلا عملية سلام شاملة أفضت إلى بناء دولة منسجمة، بينما في كولومبيا، تم التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي بين الحكومة ومتمردي الفارك، بفضل الوساطة الدولية والتزام الأطراف بالسلام. لذا، يجب على السودان أن ينطلق من هذه التجارب الدولية ويستفيد منها، في إطار عملية سياسية شاملة، تفضي إلى تأسيس دستور دائم ينص على حقوق الجميع ويعيد بناء مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الأمنية والعدلية. ويجب أن يشارك في وضع لبنات هذا الحل أطراف إقليمية ودولية، لضمان استدامة السلام وتجنب العودة إلى دائرة العنف.
إن الصراعات المسلحة في السودان، سواء في جنوب النيل الازرق أو دارفور أو كردفان، لن تُحل إلا عبر الحلول السلمية، التي تتضمن مصالحة حقيقية وتوافقًا سياسيًا يضمن حقوق الجميع. كما ان تجربة جنوب السودان تُعد درسًا قاسيًا يثبت أن الحروب لا تؤدي إلا إلى الخراب. ويجب أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم في إيجاد حل سياسي عادل، يعيد للسودان مكانته ويسهم في بناء دولة قوية ومستقرة.
No comments:
Post a Comment